حلم المنصور بن أبى عامر :
كان محمد بن أبى عامر – رحمه الله – له همة عجيبة وإرادة قوية وكان لديه حلما عظيما وهو أن يصبح حاكم الأندلس !!
وقد كان – رحمه الله – يخبر أصحابه بهذا والمقربين اليه , حتى أنه لربما قلدهم الخُطط والمناصب وهو مازال فى حداثة سنّه !!
واليكم هذه القصة التى أوردها ابن الخطيب فى كتابه " اعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الاسلام " وأوردها أيضا ابن النباهى فى ترجمة القاضى الجليل محمد بن يبقى بن زرب فى كتابه " المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء و الفتيا " يقول
( ومن أعجب أحواله – أى محمد بن أبى عامر – أنه كان على بصيرة من أمره , هانئاً بما ذخرت له الأيام فى حداثة سنّه , فكان يتكلم فى ذلك بين أصحابه , ويشير الى ما خبأ الله له من غيبه , فحدث ابن ابى الفيّاض فى كتابه قال : أخبره الفقيه أبو محمد علىّ بن أحمد , قال : أخبرنى محمد بن موسى بن عزرون , قال : أخبرنى أبى قال : اجتمعنا يوماً فى متنزه لنا بجهة الناعورة بقرطبة , ومعنا ابن أبى عامر , وهو فى حداثته , وابن عمه عمرو بن عسقلاجة , والكاتب ابن المارعزّى ورجلٌ يعرف بابن الحسن من جهة مالقة , كانت معنا سفرة فيها طعامٌ , فقال المنصور من ذلك الكلام الذى كان يتكلم به : < لا بد لى أن أملك الأندلس , وأقود العسكر , وينفذ حكمى فى جميع الأندلس !! > , ونحن نضحك منه ونهزأ به . وقال : < تمنّوا علىّ > , فقال ابن عمه عمرو : " أتمنّى أن تولينى على المدينة , نضرب ظهور الجناة ونفتحها مثل هذه الشاردة " , وقال ابن المارعزّى : "أشتهى أن تولينى أحكام السوق !" , وقال ابن الحسن : "نتمنّى أن تولينى القضاء بجهتى ! " , قال موسى بن عزرون : وقال :< تمنّى أنت ! > , فشققت لحيته , وأسمعته كلاماً سمجاً قبيحاً ...
فلم يك إلا أن صار الملك اليه , فولى ابن عمه المدينة , وولى ابن المارعزّى السوق , وكتب لابن الحسن بالقضاء , قال : "وأغرمنى أنا مالاً عظيماً , أجحفنى وأفقرنى لقبيح ما كنت جئت به .." ) انتهى كلام ابن الخطيب .
وايضا قصة أخرى عجيبة من قصص المنصور بن أبى عامر فى هذا الجانب ذكرها أبو الحسن النباهى فى كتابه (المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء و الفتيا) أنقلها لكم بتصرف :
(كان المنصور بائتاً ليلة مع أحد إخوانه في غرفة، فرقد رفيقه، ودنيُّه، ولم يرقد هو قلقاً وسهراً فقال له صاحبه: يا هذا قد أضررتني هذه الليلة بهذا السهر , فدعنى أرقد ...
فقال المنصور: إنني أتفكر في من يصلح أن يكون قاضياً للأندلس، ولمّا استغرب صاحبه ذلك، قال له: "يا هذا! أأنت أمير المؤمنين؟ فقال له: "هو كذلك".
ثم أخذ صاحبه يعرض بعض أسماء القضاء وقال : يصلح فلانٌ ويصلح فلانٌ , ومحمد بن أبى عامر لا يجوز من المذكورين أحداً , حتى ذكر صاحبه "أبي بكر محمد بن يبقى بن زرب" العالم الجليل الفاضل ، فتهللت أسارير وجه محمد بن أبى عامر وقال : < يا هذا ! فرجت عنّى , ليس بالله يصلح لها أحدٌ غيره > ثم رقد ونام مطمئناً !!! )
هكذا كان المنصور بن أبى عامر فى حداثة سنّه يحدّث نفسه بحكم الأندلس , وأن يقود العسكر وينفذ حكمه فيها , فكان يضع هذا الهدف نصب عينيه ويعمل له ويخطط من أجله ويسعى من أجل تحقيقه ..
تمثال لمحمد بن أبى عامر فى مسقط رأسه بمدينة الجزيرة الخضراء بأسبانيا حياة محمد بن أبى عامر فى قرطبة :-
اقتعد محمد بن أبى عامر دكانا عند الزهراء – المدينة الملكية التى بناها عبد الرحمن الناصر – أيام الخليفة الحكم المستنصر – رحمه الله – يكتب شكاوى الناس أو طلباتهم أو حاجاتهم التى يرفعونها الى الخليفة او الحاجب , وكان يأنس اليه فتيان القصر وظل على ذلك مدة حتى رفع ذكره وعلا شأنه وبدأ نجمه فى الظهور .
حتى طلبت السيدة صبح زوج الخليفة الحكم المستنصر – رحمه الله – وأم ولى العهد "هشام" من يكتب عنها , فدلوها على محمد بن أبى عامر , فترقى الى ان كتب عنها , فاستحسنته ونبهت عليه الحكم المستنصر – رحمه الله – ورغبت فى تشريفه بالخدمة .
ومن ذلك اليوم وبدأ نجم محمد بن أبى عامر فى الظهور وظهرت منه نجابة وذكاء أعجبت الحكم المستنصر – رحمه الله , فترشح الى وكالة ولى العهد "هشام" لسنة 359هـ , فأعجبت به الحكم المستنصر , فولاه قضاء بعض الكور بأشبيلية , ثم ترقى الى المواريث والزكاة , فأظهر حسن التدبير مع ما له من الرأى السديد فأعجب به الحكم المستنصر – رحمه الله – فولاه الشرطة الوسطى بقرطبة , ثم أصبح صاحب السكة , ثم قدمه الى الأمانات بالعدوة ....
وظل محمد بن أبى عامر فى ترقى مستمر وبدأ بزوغ فجره ومن ورائه فجر الأندلس كلها , حتى لازم الحكم المستنصر – رحمه الله – وأوكل اليه القيام على أمر ولى العهد "هشام" بن الحكم المستنصر , فبذلك أصبح محمد بن أبى عامر فى منزلة رفيعة جدا
وكان محمد بن أبى عامر يصطنع الرجال من حوله ويمهد لنفسه وكان يتخذ رجاله من البربر من أهل العدوة لخشونتهم وصلابتهم عند الحروب , ولكى يقوم بالقضاء على الصقالبة ويدمر نفوذهم فيما بعد كما سيأتى
بقايا مدينة الزهراء فى أسبانيا ...
وبذلك أصبح محمد بن أبى عامر من كبار رجال القصر وهو مازال فى العقد الثالث من عمره , وليس يضاهيه فى منزلته إلا الحاجب – بمثابة رئيس الوزراء - جعفر المصحفىّ وقائد جيش الثغور غالب الناصرىّ , وأصبح محمد بن أبى عامر حديث العامة فى قرطبة , فكان لا يمر يوم إلا وهو فى زيادة ترقى , فكانت أيامه فى إقبال وتخبر عن سعده وبزوغ فجره وسطوع شمسه , فتمكن حبه للناس وكان بابه مفتوح لهم على الدوام , وأفشى الأمن فى قرطبة بعدما ضجت العامة من ضياع الأمن لكثرة اللصوص وتسلط الفتيان الصقالبة على العامة فقد ظهر وفشى ظلمهم وبغيهم , حتى قضى عليهم محمد بن أبى عامر كما سيأتى بيانه إن شاء الله
يتبع